الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}. يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إِذْ قَالَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ لِفَتَاهُ يُوشَعَ: {لَا أَبْرَحُ} يَقُولُ: لَا أَزَالُ أَسِيرُ {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ}. كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {لَا أَبْرَحُ} قَالَ: لَا أَنْتَهِي، وَقِيلَ: عَنَى بِقَوْلِهِ: {مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} اجْتِمَاعَ بَحْرِ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَالْمَجْمَعُ: مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: جَمَعَ يَجْمَعُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} وَالْبَحْرَانِ: بَحْرُ فَارِسَ وَبَحْرُ الرُّومِ، وَبَحْرُ الرُّومِ مِمَّا يَلِي الْمَغْرِبَ، وَبَحْرُ فَارِسَ مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} قَالَ: بَحْرُ فَارِسَ، وَبَحْرُ الرُّومِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} قَالَ: بَحْرُ الرُّومِ، وَبَحْرُ فَارِسَ، أَحَدُهُمَا قِبَلَ الْمَشْرِقِ، وَالْآخَرُ قِبَلَ الْمَغْرِبِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: {مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ}. حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ الضَّرِيسِ، قَالَ: ثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، فِي قَوْلِهِ: {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} قَالَ: طَنْجَةُ. وَقَوْلُهُ: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} يَقُولُ: أَوْ أَسِيرُ زَمَانًا وَدَهْرًا، وَهُوَ وَاحِدٌ، وَيُجْمَعُ كَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ: أَحْقَابٌ وَقَدْ تَقُولُ الْعَرَبُ: كُنْتُ عِنْدَهُ حِقْبَةً مِنَ الدَّهْرِ: وَيَجْمَعُونَهَا حُقُبًا. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُوَجِّهُ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ {لَا أَبْرَحُ}: أَيْ لَا أَزْولُ، وَيَسْتَشْهِدُ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِبَيْتِ الْفَرَزْدَقِ: فَمـا بَرِحُـوا حَـتَّى تَهَـادَتْ نِسَاؤُهُمْ *** بِبَطْحَـاءِ ذِي قـارٍ عِيـَابَ اللَّطـائِمِ يَقُولُ: مَا زَالُوا. وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ، أَنَّ الْحُقُبَ فِي لُغَةِ قَيْسٍ: سَنَةٌ، فَأَمَّا أَهْلُ التَّأْوِيلِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي ذَلِكَ مَا أَنَا ذَاكَرَهُ، وَهُوَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ ثَمَانُونَ سَنَةً.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ هُشَيْمٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو بَلْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: الْحُقُبُ: ثَمَانُونَ سَنَةً. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ سَبْعُونَ سَنَةً.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} قَالَ: سَبْعِينَ خَرِيفًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ، بِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} قَالَ: دَهْرًا. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ (حُقُبًا) قَالَ: الْحُقُبُ: زَمَانٌ. حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} قَالَ: الْحُقُبُ: الزَّمَانُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}. يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا بَلَغَ مُوسَى وَفَتَاهُ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ، كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} قَالَ: بَيْنَ الْبَحْرِينِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. وَقَوْلُهُ: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} يَعْنِي بِقَوْلِهِ: نَسِيَا: تَرَكَا. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {نَسِيَا حُوتَهُمَا} قَالَ: أَضَلَّاهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: أَضَلَّاهُ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: إِنَّ الْحُوتَ كَانَ مَعَ يُوشَعَ، وَهُوَ الَّذِي نَسِيَهُ، فَأُضِيفَ النِّسْيَانُ إِلَيْهِمَا، كَمَا قَالَ {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنَ الْمِلْحِ دُونَ الْعَذْبِ. وَإِنَّمَا جَازَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: (نَسِيَا) لِأَنَّهُمَا كَانَا جَمِيعًا تُزَوِّدَاهُ لِسَفَرِهِمَا، فَكَانَ حَمْلُ أَحَدِهِمَا ذَلِكَ مُضَافًا إِلَى أَنَّهُ حَمْلٌ مِنْهُمَا، كَمَا يُقَالُ: خَرَجَ الْقَوْمُ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا، وَحَمَلُوا مَعَهُمْ كَذَا مِنَ الزَّادِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ أَحَدُهُمَا وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ عَنْ رَأْيِهِمْ وَأَمْرِهِمْ أُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى جَمِيعِهِمْ، فَكَذَلِكَ إِذَا نَسِيَهُ حَامِلُهُ فِي مَوْضِعٍ قِيلَ: نَسِيَ الْقَوْمُ زَادَهُمْ، فَأُضِيفُ ذَلِكَ إِلَى الْجَمِيعِ بِنِسْيَانِ حَامِلِهِ ذَلِكَ، فَيَجْرِي الْكَلَامُ عَلَى الْجَمِيعِ وَالْفِعْلُ مِنْ وَاحِدٍ، فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ خَاطَبَ الْعَرَبَ بَلَغْتِهَا، وَمَا يَتَعَارَفُونَهُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْكَلَامِ. وأَمَّا قَوْلُهُ: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِخِلَافِ مَا قَالَ فِيهِ، وَسَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ. وأَمَّا قَوْلُهُ: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّ الْحُوتَ اتَّخَذَ طَرِيقَهُ الَّذِي سَلَكَهُ فِي الْبَحْرِ سِرْبًا. كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} قَالَ: الْحُوتُ اتَّخَذَ. وَيَعْنِي بِالسَرَبِ: الْمَسْلَكَ وَالْمَذْهَبَ، يَسْرِبُ فِيهِ: يَذْهَبُ فِيهِ وَيَسْلُكُهُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي صِفَةِ اتِّخَاذِهِ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَارَ طَرِيقُهُ الَّذِي يَسْلُكُ فِيهِ كَالْجُحْرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ (سَرَبًا) قَالَ: أَثَرُهُ كَأَنَّهُ جُحْرٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: ثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزَّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ذَكَرَ حَدِيثَ ذَلِكَ: «مَا انْجَابَ مَاءٌ مُنْذُ كَانَ النَّاسُ غَيْرُهُ ثَبَتَ مَكَانُ الْحُوتِ الَّذِي فِيهِ فَانْجَابَ كَالْكُوَّةِ حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ مُوسَى، فَرَأَى مَسْلَكَهُ، فَقَالَ: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي». حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} قَالَ: جَاءَ فَرَأَى أَثَرَ جَنَاحَيْهِ فِي الطِّينِ حِينَ وَقَعَ فِي الْمَاءِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} وَحَلَّقَ بِيَدِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ صَارَ طَرِيقُهُ فِي الْبَحْرِ مَاءً جَامِدًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَرَبَ مِنَ الْجَرِّ حَتَّى أَفْضَى إِلَى الْبَحْرِ، ثُمَّ سَلَكَ، فَجَعَلَ لَا يَسْلُكُ فِيهِ طَرِيقًا إِلَّا صَارَ مَاءً جَامِدًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ صَارَ طَرِيقُهُ فِي الْبَحْرِ حَجَرًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَمَلَ الْحُوتُ لَا يَمَسُّ شَيْئًا مِنَ الْبَحْرِ إِلَّا يَبِسَ حَتَّى يَكُونَ صَخْرَةً. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ إِنَّمَا اتَّخَذَ سَبِيلَهُ سَرَبَا فِي الْبَرِّ إِلَى الْمَاءِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَيْهِ لَا فِي الْبَحْرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} قَالَ: قَالَ: حُشِرَ الْحُوتُ فِي الْبَطْحَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ حِينَ أَحْيَاهُ اللَّهُ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَأَخْبَرَنِي أَبُو شُجَاعٍ أَنَّهُ رَآهُ قَالَ: أَتَيْتُ بِهِ فَإِذَا هُوَ شَقَّةُ حُوتٍ وَعَيْنٌ وَاحِدَةٌ، وَشَقٌّ آخَرُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَاتَّخَذَ الْحُوتُ طَرِيقَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ السَّرَبُ كَانَ بِانْجِيَابٍ عَنِ الْأَرْضِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ بِجُمُودِ الْمَاءِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ بِتَحَوُّلِهِ حَجَرًا. وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِيهِ مَا رُوِيَ الْخَبَرُ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ أُبَيٍّ عَنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَلَمَّا جَاوَزَا} مُوسَى وَفَتَاهُ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ، (قَالَ) مُوسَى (لِفَتَاهُ) يُوشِعُ {آتِنَا غَدَاءَنَا} يَقُولُ: جِئْنَا بِغَدَائِنَا وَأَعْطِنَاهُ، وَقَالَ: آتِنَا غَدَاءَنَا، كَمَا يُقَالُ: أَتَى الْغَدَاءَ وَأَتَيْتُهُ، مِثْلَ ذَهَبَ وَأَذْهَبْتُهُ، {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} يَقُولُ: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا عَنَاءً وَتَعَبًا، وَقَالَ ذَلِكَ مُوسَى، فِيمَا ذُكِرَ، بَعْدَ مَا جَاوَزَ الصَّخْرَة، حِينَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ الْجُوعُ لِيَتَذَكَّرَ الْحُوتَ، وَيَرْجِعُ إِلَى مَوْضِعِ مَطْلَبِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى حِينَ قَالَ لَهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لِنَطْعَمَ: أَرَأَيْتَ إِذَا أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ هُنَالِكَ {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} يَقُولُ: وَمَا أَنْسَانِي الْحُوتَ إِلَّا الشَّيْطَانُ {أَنْ أَذْكُرَهُ} فَأَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ رَدًّا عَلَى الْحُوتِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَمَا أَنْسَانِي أَنْ أَذْكُرَ الْحُوتَ إِلَّا الشَّيْطَانُ سَبَقَ الْحُوتُ إِلَى الْفِعْلِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ {أَنْ أَذْكُرَهُ} وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: وَمَا أَنْسَانِيهِ أَنْ أَذْكُرَهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَعْقِلٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الصَّخْرَةَ الَّتِي أَوَى إِلَيْهَا مُوسَى هِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي دُونَ نَهْرِ الذِّئْبِ عَلَى الطَّرِيقِ {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} يَعْجَبُ مِنْهُ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} قَالَ: مُوسَى يَعْجَبُ مِنْ أَثَرِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ وَدَوْرَاتِهِ الَّتِي غَابَ فِيهَا، فَوَجَدَ عِنْدَهَا خَضِرًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} فَكَانَ مُوسَى لِمَا اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا، يَعْجَبُ مِنْ سَرَبِ الْحُوتِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} قَالَ: عَجَبٌ وَاللَّهِ حُوتٌ كَانَ يُؤْكَلُ مِنْهُ أَدْهُرًا، أَيُّ شَيْءٍ أَعْجَبُ مِنْ حُوتٍ كَانَ دَهْرًا مِنَ الدُّهُورِ يُؤْكَلُ مِنْهُ، ثُمَّ صَارَ حَيًّا حَتَّى حُشِرَ فِي الْبَحْرِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جُعِلَ الْحُوتُ لَا يَمَسُّ شَيْئًا فِي الْبَحْرِ إِلَّا يَبِسَ حَتَّى يَكُونَ صَخْرَةً، فَجَعَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} قَالَ: يَعْنِي كَانَ سَرَبُ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ لِمُوسَى عَجَبًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَـ (قَالَ) مُوسَى لِفَتَاهُ (ذَلِكَ) يَعْنِي بِذَلِكَ: نِسْيَانُكَ الْحُوتَ {مَا كُنَّا نَبْغِ} يَقُولُ: الَّذِي كُنَّا نَلْتَمِسُ وَنَطْلُبُ، لِأَنَّ مُوسَى كَانَ قِيلَ لَهُ صَاحِبُكَ الَّذِي تُرِيدُهُ حَيْثُ تَنْسَى الْحُوتَ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} قَالَ مُوسَى: فَذَلِكَ حِينَ أُخْبِرْتُ أَنِّي وَاجِدٌ خَضِرًا حَيْثُ يَفُوتُنِي الْحُوتُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: حَيْثُ يُفَارِقُنِي الْحُوتُ. وَقَوْلُهُ: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} يَقُولُ: فَرَجَعَا فِي الطَّرِيقِ الَّذِي كَانَا قَطِّعَاهُ نَاكِصِينَ عَلَى أَدْبَارِهِمَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا الَّتِي كَانَا سِلْكَاهُمَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: (قَصَصًا) قَالَ: اتَّبَعَ مُوسَى وَفَتَاهُ أَثَرَ الْحُوتِ، فَشِقًّا الْبَحْرَ رَاجِعِينَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} قَالَ: اتِّبَاعُ مُوسَى وَفَتَاهُ أَثَرَ الْحُوتِ بِشِقِّ الْبَحْرِ، وَمُوسَى وَفَتَاهُ رَاجِعَانِ وَمُوسَى يَعْجَبُ مِنْ أَثَرِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ، وَدَوْرَاتِهِ الَّتِي غَابَ فِيهَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: رَجَعَا عَوَّدَهُمَا عَلَى بَدْئِهِمَا {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}. حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: ثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزَّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}: " أَيْ يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى مَدْخَلِ الْحُوت». وَقَوْلُهُ: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} يَقُولُ: وَهَبَنَا لَهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} يَقُولُ: وَعَلِمْنَاهُ مِنْ عِنْدِنَا أَيْضًا عِلْمًا. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}: أَيْ مِنْ عِنْدِنَا عِلْمًا. وَكَانَسَبَبُ سَفَرِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَتَاهُ، وَلِقَائِهِ هَذَا الْعَالِمَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِيمَا ذَكَرَ، أَنَّ مُوسَى سُئِلَ: هَلْ فِي الْأَرْضِ، أَعْلَمُ مِنْكَ؟ فَقَالَ: لَا أَوْ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِذَلِكَ، فَكَرِهَ ذَلِكَ لَهُ، فَأَرَادَ اللَّهُ تَعْرِيفَهُ أَنَّ مِنْ عِبَادِهِ فِي الْأَرْضِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُحَتِّمَ عَلَى مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَلَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكِلَ ذَلِكَ إِلَى عَالَمِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى عَالِمٍ يَزْدَادُ مِنْ عِلْمِهِ إِلَى عِلْمِ نَفْسِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ": سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ وَقَالَ: رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي يَذْكُرُنِي وَلَا يَنْسَانِي، قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَقْضَى؟ قَالَ: الَّذِي يَقْضِي بِالْحَقِّ وَلَا يَتَّبِعُ الْهَوَى، قَالَ: أَيْ رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَبْتَغِي عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِ نَفْسِهِ، عَسَى أَنْ يُصِيبَ كَلِمَةً تَهْدِيهِ إِلَى هُدًى، أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى، قَالَ: رَبِّ فَهَلْ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعِمَ، قَالَ: رَبِّ، فَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: الْخُضْرُ، قَالَ: وَأَيْنَ أَطْلُبُهُ؟ قَالَ: عَلَى السَّاحِلِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي يَنْفَلِتُ عِنْدَهَا الْحُوتُ، قَالَ: فَخَرَجَ مُوسَى يَطْلُبُهُ، حَتَّى كَانَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ، وَانْتَهَى إِلَيْهِ مُوسَى عِنْدَ الصَّخْرَةِ، فَسَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَسْتَصْحِبَنِي، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُطِيقَ صُحْبَتِي، قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنْ صَحِبْتَنِي {فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}...إِلَى قَوْلِهِ: {لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} قَالَ: فَكَانَ قَوْلُ مُوسَى فِي الْجِدَارِ لِنَفْسِهِ، وَلِطَلَبِ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَكَانَ قَوْلُهُ فِي السَّفِينَةِ وَفِي الْغُلَامِ لِلَّهِ، {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ أَمَّا السَّفِينَةُ وَأَمَّا الْغُلَامُ وَأَمَّا الْجِدَارُ، قَالَ: فَسَارَ بِهِ فِي الْبَحْرِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَجْمَعِ الْبُحُورِ، وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَكَانٌ أَكْثَرُ مَاءٍ مِنْهُ، قَالَ: وَبَعَثَ رَبُّكَ الْخُطَّافَ فَجَعَلَ يَسْتَقِي مِنْهُ بِمِنْقَارِهِ، فَقِيلَ لِمُوسَى: كَمْ تَرَى هَذَا الْخُطَّافَ رَزَأَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ؟ قَالَ: مَا أَقَلَّ مَا رَزَأَ، قَالَ: يَا مُوسَى فَإِنَّ عِلْمِي وَعِلْمَكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَقَدْرِ مَا اسْتَقَى هَذَا الْخُطَّافُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ، وَكَانَ مُوسَى قَدْ حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُ، أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ، فَمِنْ ثَمَّ أُمِرَ أَنْ يَأْتِيَ الْخَضِرَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَطَبَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: مَا أَحَدٌ أَعْلَمَ بِاللَّهِ وَبِأَمْرِهِ مِنِّي، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ يَأْتِيَ هَذَا الرَّجُلَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ آيَةَ لَقْيِكَ إِيَّاهُ أَنْ تَنْسَى بَعْضَ مَتَاعِكَ، فَخَرَجَ هُوَ وَفَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نَونٍ، وَتَزَوَّدَا حُوتًا مَمْلُوحًا، حَتَّى إِذَا كَانَا حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، رَدَّ اللَّهُ إِلَى الْحُوتِ رُوحَهُ، فَسَرَبَ فِي الْبَحْرِ، فَاتَّخَذَ الْحُوتُ طَرِيقَهُ سَرَبًا فِي الْبَحْرِ، فَسَرَبَ فِيهِ {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}... حَتَّى بَلَغَ {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} فَكَانَ مُوسَى اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا، فَكَانَ يَعْجَبُ مِنْ سَرَبِ الْحُوتِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا اقْتَصَّ مُوسَى أَثَرَ الْحُوتِ انْتَهَى إِلَى رَجُلٍ رَاقِدٍ قَدْ سَجَّى عَلَيْهِ ثَوْبَهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى فَكَشَفَ الرَّجُلُ عَنْ وَجْهِهِ الثَّوْبَ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مُوسَى، قَالَ: صَاحِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعِمَ، قَالَ: أَوَمَا كَانَ لَكَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ شَغْلٌ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُمِرْتُ أَنْ آتِيَكَ وَأَصْحَبَكَ، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا، كَمَا قَصَّ اللَّهُ، (حَتَّى) بَلَغَ فَلَمَّا {رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} صَاحِبُ مُوسَى {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} يَقُولُ: نُكْرًا {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ}. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا يَزْعُمُ أَنَّ الْخِضَرَ لَيْسَ بِصَاحِبِ مُوسَى، فَقَالَ: كَذِبَ عَدُوٌّ اللَّهِ. حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ مُوسَى قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ خَطِيبًا فَقِيلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: بَلَى عَبْدٌ لِي عِنْدَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ بِهِ؟ فَقِيلَ: تَأْخُذُ حُوتًا، فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، ثُمَّ قَالَ لِفَتَاهُ: إِذَا فَقَدْتَ هَذَا الْحُوتَ فَأَخْبِرْنِي، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ حَتَّى أَتَيَا صَخْرَةً، فَرَقَدَ مُوسَى، فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ، فَخَرَجَ فَوَقَعَ فِي الْبَحْرِ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جَرْيَةَ الْمَاءِ، فَصَارَ مِثْلَ الطَّاقِ، فَصَارَ لِلْحُوتِ سَرَبًا وَكَانَ لَهُمَا عَجَبًا، ثُمَّ انْطَلَقَا، فَلَمَّا كَانَ حِينَ الْغَدِ، قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا، قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ قَالَ: فَقَالَ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} قَالَ: فَقَالَ: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}. قَالَ: يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا، قَالَ: فَآتَيَا الصَّخْرَةَ، فَإِذَا رَجُلٌ نَائِمٌ مُسَجًّى بِثَوْبِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ: وَأَنَّى بِأَرْضِنَا السَّلَامُ؟ فَقَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا مُوسَى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ؛ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِهِ عَلَّمَكَهُ لَا أَعْلَمُهُ، قَالَ: فَإِنِّي أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ: فَإِنِ اتَّبَعْتِنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ، فَعُرِفَ الْخَضِرُ، فَحُمِلَ بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِهَا فَنَقَرَ، أَوْ فَنَقَرَ فِي الْمَاءِ، فَقَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى: مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِقْدَارَ مَا نَقَرَ أَوْ نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنَ الْبَحْرِ". أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرَيُّ يَشُكُّ، وَهُوَ فِي كِتَابِهِ نَقَرَ، قَالَ: "فَبَيْنَمَا هُوَ إِذْ لَمْ يَفْجَأْهُ مُوسَى إِلَّا وَهُوَ يَتِدُ وَتَدًا أَوْ يَنْـزِعُ تَخْتًا مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: حُمِلْنَا بِغَيْرِ نَوْلٍ وَتَخْرِقُهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟ لَقَدْ {جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} قَالَ: وَكَانَتِ الْأوَلى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَا فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ، فَأَبْصَرَا غُلَامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا؟ قَالَ: إِنْ سألْتُكُ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا. قَالَ: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا}، فَلَمْ يَجِدَا أَحَدًا يُطْعِمُهُمْ وَلَا يَسْقِيهِمْ، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، فَأَقَامَهُ بِيَدِهِ، قَالَ: مَسَحَهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: لَمْ يُضَيِّفُونا وَلَمْ يُنْـزِلُونَا، لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا، قَالَ: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوَدِدْتُ أَنَّهُ كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ عَلَيْنَا قَصَصَهُمْ ". حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: جَلَسْتُ فَأَسْنَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ، إِنَّ نَوْفًا ابْنَ امْرَأَةِ كَعْبٍ يَزْعُمُ عَنْ كَعْبٍ، أَنَّ مُوسَى النَّبِيَّ الَّذِي طَلَبَ الْعَالَمَ، إِنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ مَيْشَا، قَالَ سَعِيدٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنُوفٌ يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ سَعِيدٌ: فَقُلْتُ لَهُ نَعَم، أَنَا سَمِعْتُ نَوْفًا يَقُولُ ذَلِكَ، قَالَ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ يَا سَعِيدُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَذِبَ نُوفٌ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مُوسَى هُوَ نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ رَبَّهُ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ إِنْ كَانَ فِي عِبَادِكَ أَحَدٌ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي فَادْلُلْنِي عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ فِي عِبَادِي مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، ثُمَّ نَعَتَ لَهُ مَكَانَهُ، وَأُذُنَ لَهُ فَي لَقْيِهِ، فَخَرَجَ مُوسَى مَعَهُ فَتَاهَ وَمَعَهُ، حُوتٌ مَلِيحٌ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: إِذَا حَيِيَ هَذَا الْحُوتُ فِي مَكَانٍ فَصَاحِبُكَ هُنَالِكَ وَقَدْ أَدْرَكْتَ حَاجَتَكَ، فَخَرَجَ مُوسَى وَمَعَهُ فَتَاهُ، وَمَعَهُ ذَلِكَ الْحُوتُ يَحْمِلَانِهِ، فَسَارَ حَتَّى جَهَدَهُ السَّيْرُ، وَانْتَهَى إِلَى الصَّخْرَةِ وَإِلَى ذَلِكَ الْمَاءِ، مَاءُ الْحَيَاةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ خَلَدَ. وَلَا يُقَارِبُهُ شَيْءٌ مَيِّتٌ إِلَّا حَيِيَ، فَلَمَّا نَـزَلَا وَمَسَّ الْحُوتُ الْمَاءَ حَيِيَ، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، فَانْطَلَقَا، فَلَمَّا جَاوَزَا مُنْقَلَبَهُ قَالَ مُوسَى: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}، قَالَ الْفَتَى وَذَكَرَ: أَرَأَيْتَ {إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} "» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَظَهَرَ مُوسَى عَلَى الصَّخْرَةِ حِينَ انْتَهَيَا إِلَيْهَا، فَإِذَا رَجُلٌ مُتَلَفِّفٌ فِي كِسَاءٍ لَهُ، فَسَلَّمَ مُوسَى، فَرَدَّ عَلَيْهِ الْعَالِمُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَمَا جَاءَ بِكَ؟ إِنْ كَانَ لَكَ فِي قَوْمِكَ لَشُغْلٌ؟ قَالَ لَهُ مُوسَى: جِئْتُكَ لِتَعْلَمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}، وَكَانَ رَجُلًا يَعْلَمُ عِلْمَ الْغَيْبِ قَدْ عُلِّمَ ذَلِكَ، فَقَالَ مُوسَى: بَلَى قَالَ: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}: أَيْ إِنَّمَا تَعْرِفُ ظَاهِرَ مَا تَرَى مِنَ الْعَدْلِ، وَلَمْ تُحَطْ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ بِمَا أَعْلَمُ {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} وَإِنْ رَأَيْتُ مَا يُخَالِفُنِي، {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتِنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} وَإِنْ أَنْكَرْتُهُ {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، يَتَعَرَّضَانِ النَّاسَ، يَلْتَمِسَانِ مَنْ يَحْمِلُهُمَا، حَتَّى مَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ جَدِيدَةٌ وَثِيقَةٌ لَمْ يَمُرَّ بِهِمَا مِنَ السُّفُنِ شَيْءٌ أَحْسَنُ وَلَا أَجْمَلُ وَلَا أَوْثَقُ مِنْهَا، فَسَأَلَا أَهْلَهَا أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَحَمَلُوهُمَا، فَلِمَا اطْمَأَنَّا فِيهَا، وَلَجَتْ بِهِمَا مَعَ أَهْلِهَا، أَخْرَجَ مِنْقَارًا لَهُ وَمِطْرَقَةً، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهَا فَضَرَبَ فِيهَا بِالْمِنْقَارِ حَتَّى خَرَقَهَا، ثُمَّ أَخَذَ لَوْحًا فَطَبَّقَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهَا يُرَقِّعُهَا. قَالَ لَهُ مُوسَى وَرَأَى أَمْرًا فَظِعَ بِهِ: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ}: أَيْ مَا تَرَكْتُ مِنْ عَهْدِكَ {وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ فَإِذَا غِلْمَانٌ يَلْعَبُونَ خَلْفَهَا، فِيهِمْ غُلَامٌ لَيْسَ فِي الْغِلْمَانِ أَظْرَفُ مِنْهُ، وَلَا أَثْرَى وَلَا أَوْضَأُ مِنْهُ، فَأَخْذَهُ بِيَدِهِ، وَأَخَذَ حَجَرًا، قَالَ: فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَهُ حَتَّى دَمَغَهُ فَقَتَلَهُ، قَالَ: فَرَأَى مُوسَى أَمْرًا فَظِيعًا لَا صَبْرَ عَلَيْهِ، صَبِيٌّ صَغِيرٌ لَا ذَنْبَ لَهُ {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} أَيْ صَغِيرَةٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}: أَيْ قَدْ أُعْذِرْتَ فِي شَأْنِي {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ} فَهَدْمَهَ، ثُمَّ قَعَدَ يَبْنِيهِ، فَضَجِرَ مُوسَى مِمَّا رَآهُ يَصْنَعُ مِنَ التَّكْلِيفِ لِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ صَبْرٌ، فَقَالَ: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} أَيْ قَدِ اسْتَطْعَمْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا، وَضَفْنَاهُمْ فَلَمْ يُضِيفُونَا، ثُمَّ قَعَدْتَ فِي غَيْرِ صَنِيعَةٍ، وَلَوْ شِئْتَ لَأُعْطِيتَ عَلَيْهِ أَجْرًا فِي عَمَلِهِ {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَ سَفِينَةٍ غَصْبًا}، وَفِي قِرَاءَةِ أَبِيِّ بْنِ كَعْبٍ: كُلُّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ، وَإِنَّمَا عِبْتُهَا لِأَرُدُّهُ عَنْهَا، فَسَلِمَتْ حِينَ رَأَى الْعَيْبَ الَّذِي صَنَعْتُ بِهَا. {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}: أَيْ مَا فَعَلْتُهُ عَنْ نَفْسِي {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَا كَانَ الْكَنْـزُ إِلَّا عِلْمًا. حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: ثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ نَسْمَعْ لِفَتَى مُوسَى يَذْكُرُ مِنْ حَدِيثٍ، وَقَدْ كَانَ مَعَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا يَذْكُرُ مِنْ حَدِيثِ الْفَتَى قَالَ: شَرِبَ الْفَتَى مِنَ الْمَاءِ فَخُلِّدَ، فَأَخَذَهُ الْعَالِمُ فَطَابَقَ بِهِ سَفِينَةً، ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهَا لَتَمُوجُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ فَشَرِبَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} قَالَ: لَمَّا ظَهَرَ مُوسَى وَقَوْمُهُ عَلَى مِصْرَ أَنْـزَلَ قَوْمَهُ مِصْرَ ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ بِهِمُ الدَّارُ أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} فَخَطَبَ قَوْمَهُ، فَذَكَرَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ، وَذَكَّرَهُمْ إِذْ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَذَكَّرَهُمْ هَلَاكَ عَدُوِّهِمْ، وَمَا اسْتَخْلَفَهُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، وَقَالَ: كَلَّمَ اللَّهُ نَبِيَّكُمْ تَكْلِيمًا، وَاصْطَفَانِي لِنَفْسِهِ، وَأَنْـزَلَ عَلِيَّ مَحَبَّةً مِنْهُ، وَآتَاكُمُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ، فَنَبِيُّكُمْ أَفْضَلُ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَأَنْتُمْ تَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ، فَلَمْ يَتْرُكْ نِعْمَةً أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِلَّا ذَكَرَهَا، وَعَرَّفَهَا إِيَّاهُمْ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: هُمْ كَذَلِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ عَرِفْنَا الَّذِي تَقُولُ، فَهَلْ عَلَى الْأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا فَبَعَثَ اللَّهُ جِبْرَئِيلَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَمَا يُدْرِيكَ أَيْنَ أَضَعُ عِلْمِي؟ بَلَى إِنَّ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ رَجُلًا أَعْلَمُ مِنْكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْخَضِرُ، فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ إِيَّاهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ ائْتِ الْبَحْرَ، فَإِنَّكَ تَجِدُ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ حُوتًا، فَخُذْهُ فَادْفَعْهُ إِلَى فَتَاكَ، ثُمَّ الْزَمْ شَطَّ الْبَحْرِ، فَإِذَا نَسِيَتِ الْحُوتَ وَهَلَكَ مِنْكَ، فَثَمَّ تَجِدُ الْعَبْدَ الصَّالِحَ الَّذِي تَطْلُبُ، فَلَمَّا طَالَ سَفَرُ مُوسَى نَبِيِّ اللَّهِ وَنَصَبَ فِيهِ، سَأَلَ فَتَاهَ عَنِ الْحُوتِ، فَقَالَ لَهُ فَتَاهَ وَهُوَ غُلَامُهُ {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} قَالَ الْفَتَى: لَقَدْ رَأَيْتُ الْحُوتَ حِينَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ مُوسَى فَرَجَعَ حَتَّى أَتَى الصَّخْرَةَ، فَوَجَدَ الْحُوتَ يَضْرِبُ فِي الْبَحْرِ، وَيَتْبَعُهُ مُوسَى، وَجَعَلَ مُوسَى يُقَدِّمُ عَصَاهُ يَفْرُجُ بِهَا عَنِ الْمَاءِ يَتْبَعُ الْحُوتَ، وَجَعَلَ الْحُوتُ لَا يَمَسُّ شَيْئًا مِنَ الْبَحْرِ إِلَّا يَبِسَ حَتَّى يَكُونَ صَخْرَةً، فَجَعَلَ نَبِيُّ اللَّهِ يَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى انْتَهَى بِهِ الْحُوتُ إِلَى جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، فَلَقِيَ الْخَضِرَ بِهَا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْخَضِرُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، وَأَنَّى يَكُونُ هَذَا السَّلَامُ بِهَذِهِ الْأَرْضِ، وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: أُصَاحِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعِمَ فَرَحَّبَ بِهِ، وَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} قَالَ: لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ مُوسَى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِ وَقَالَ لَهُ: لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ أَصْنَعُهُ حَتَّى أُبَيِّنَ لَكَ شَأْنَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} فَرَكْبًا فِي السَّفِينَةِ يُرِيدَانِ الْبِرَّ، فَقَامَ الْخَضِرُ فَخَرْقَ السَّفِينَةَ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} ذُكِرَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَطَعَ الْبَحْرَ وَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، جَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَأَعْلَمُهُمْ، قَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ عَدُوَّكُمْ، وَأَقْطَعَكُمُ الْبَحْرَ، وَأَنْـزَلَ عَلَيْكُمُ التَّوْرَاةَ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَاهُنَا رَجُلًا هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ: فَانْطَلَقَ هُوَ وَفَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ يَطْلُبَانِهِ، وَتَزَوَّدَا سَمَكَةً مَمْلُوحَةً فِي مِكْتَلٍ لَهُمَا، وَقِيلَ لَهُمَا: إِذَا نَسِيتُمَا مَا مَعَكُمَا لَقِيتُمَا رَجُلًا عَالِمًا يُقَالُ لَهُ الْخَضِرُ، فَلَمَّا أَتَيَا ذَلِكَ الْمَكَان، رَدَّ اللَّهُ إِلَى الْحُوتِ رُوحَهُ، فَسَرَبَ لَهُ مِنَ الْجِسْرِ حَتَّى أَفْضَى إِلَى الْبَحْرِ، ثُمَّ سَلَكَ فَجَعَلَ لَا يَسْلُكُ فِيهِ طَرِيقًا إِلَّا صَارَ مَاءً جَامِدًا، قَالَ: وَمَضَى مُوسَى وَفَتَاهُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ}... ثُمَّ تَلَا إِلَى قَوْلِهِ: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} فَلَقِيَا رَجُلًا عَالِمًا يُقَالُ لَهُ الْخَضِرُ، فَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا سُمِيَ الْخَضِرُ خَضِرًا لِأَنَّهُ قَعَدَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَاهْتَزَّتْ بِهِ خَضْرَاء». حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، قَالَ: ثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: ثَنَا الزَّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتَبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لَقِيَهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «بَيْنَا مُوسَى فِي مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: تَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمُ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لَا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لَقْيِهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَكَانَ مُوسَى يَتْبَعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبُحُرِ، فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} قَالَ مُوسَى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} فَوَجَدَا عَبْدَنَا خَضِرًا، وَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِه». حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ، قَالَ: ثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النَّمِيرِيُّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ الزَّهْرِيَّ يُحَدِّثُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتَبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ مُوسَى لِلْعَالَمِ: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي عَلَّمَكَ اللَّهُ مَا هُوَ رَشَادٌ إِلَى الْحَقِّ، وَدَلِيلٌ عَلَى هُدَى؟ {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ الْعَالِمُ: إِنَّكَ لَنْ تُطِيقَ الصَّبْرَ مَعِي، وَذَلِكَ أَنِّي أَعْمَلُ بِبَاطِنِ عِلْمٍ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ، وَلَا عِلْمَ لَكَ إِلَّا بِظَاهِرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَلَا تَصْبِرُ عَلَى مَا تَرَى مِنَ الْأَفْعَالِ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخَبَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَبْلُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا يَعْمَلُ عَلَى الْغَيْبِ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}. يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْقَوْلِ الْعَالِمِ لِمُوسَى: وَكَيْفَ تَصْبِرُ يَا مُوسَى عَلَى مَا تَرَى مِنِّي مِنَ الْأَفْعَالِالَّتِي لَا عِلْمَ لَكَ بِوُجُوهِ صَوَابِهَا، وَتُقِيمُ مَعِي عَلَيْهَا، وَأَنْتِ إِنَّمَا تَحْكُمُ عَلَى صَوَابِ الْمُصِيبِ وَخَطَأِ الْمُخْطِئِ بِالظَّاهِرِ الَّذِي عِنْدَكَ، وَبِمَبْلَغِ عِلْمِكَ، وَأَفْعَالِي تَقَعُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ لِرَأْيِ عَيْنِكَ عَلَى صَوَابِهَا، لِأَنَّهَا تَبْتَدِئُ لِأَسْبَابٍ تَحَدُّثٍ آجِلَةٍ غَيْرِ عَاجِلَةٍ، لَا عِلْمَ لَكَ بِالْحَادِثِ عَنْهَا، لِأَنَّهَا غَيْبٌ، وَلَا تُحِيطُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ خَبَرًا يَقُولُ عِلْمًا، قَالَ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} عَلَى مَا أَرَى مِنْكَ وَإِنْ كَانَ خِلَافًا لِمَا هُوَ عِنْدِي صَوَابٌ {وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} يَقُولُ: وَأَنْتَهِي إِلَى مَا تَأْمُرُنِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا هَوَايَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}. يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: قَالَ الْعَالِمُ لِمُوسَى: فَإِنِ اتَّبَعَتْنِي الْآنَ فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ أَعْمَلُهُمِمَّا تَسْتَنْكِرُهُ، فَإِنِّي قَدْ أَعْلَمْتُكَ أَنِّي أَعْمَلُ الْعَمَلَ عَلَى الْغَيْبِ الَّذِي لَا تُحِيطُ بِهِ عِلْمًا {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} يَقُولُ: حَتَّى أُحْدِثَ أَنَا لَكَ مِمَّا تَرَى مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي أَفْعَلُهَا الَّتِي تَسْتَنْكِرُهَا أَذْكُرُهَا لَكَ وَأُبَيِّنُ لَكَ شَأْنَهَا، وَأَبْتَدِئُكَ الْخَبَرَ عَنْهَا. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} يَعْنِي عَنْ شَيْءٍ أَصْنَعُهُ حَتَّى أُبَيِّنَ لَكَ شَأْنَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَانْطَلَقَ مُوسَى وَالْعَالِمُ يَسِيرَانِ يَطْلُبَانِ سَفِينَةً يَرْكَبَانِهَا، حَتَّى إِذَا أَصَابَاهَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ، فَلَمَّا رَكِبَاهَا، خَرَقَ الْعَالَمُ السَّفِينَةَ، قَالَ لَهُ مُوسَى: أَخَرَقَتْهَا بَعْدَ مَا لَجَجْنَا فِي الْبَحْرِ {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} يَقُولُ: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا عَظِيمًا، وَفَعَلْتَ فِعْلًا مُنْكِرًا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}: أَيْ عَجَبًا، إِنَّ قَوْمًا لَجَّجُوا سَفِينَتَهُمْ فَخَرَقَتْهَا، كَأَحْوَجَ مَا نَكُونُ إِلَيْهَا، وَلَكِنْ عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَعْلَمْ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ الَّذِي آتَاهُ، وَقَدْ قَالَ لِنَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {فَإِنِ اتَّبَعْتِنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} يَقُولُ: نُكْرًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} قَالَ: مُنْكِرًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ، وَالْإِمْرُ: فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الدَّاهِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: قَـدْ لَقِـيَ الْأقْـرَانُ مِنِّـي نُكْـرًا *** دَاهِيَـةً دَهْيَـاءَ إِدًّا إِمْـرًا وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ يَقُولُ: أَصْلُهُ: كُلُّ شَيْءٍ شَدِيدٍ كَثِيرٍ، وَيَقُولُ مِنْهُ: قِيلَ لِلْقَوْمِ: قَدْ أَمَرُوا: إِذَا كَثُرُوا وَاشْتَدَّ أَمْرُهُمْ، قَالَ: وَالْمَصْدَرُ مِنْهُ: الْأَمَرَ، وَالِاسْمُ: الْإِمْرُ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} بِالتَّاء فِي لِتُغْرِقَ، وَنَصَبِ "الْأَهْلَ"، بِمَعْنَى: لِتُغْرِقَ أَنْتَ أَيُّهَا الرَّجُلُ أَهْلَ هَذِهِ السَّفِينَةِ بِالْخَرْقِ الَّذِي خَرَقَتْ فِيهَا. وَقَرَأَهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: (لِيَغْرَقَ (بِالْيَاءِ أَهْلُهَا بِالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّ الْأَهْلَ هُمُ الَّذِينَ يَغْرَقُونَ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ، مُتَّفِقَتَا الْمَعْنَى وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُمَا، فَبِأَيِّ ذَلِكَ قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: هُمَا مُتَّفِقَتَا الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّإِنْكَارَ مُوسَى عَلَى الْعَالِمِ خَرْقَ السَّفِينَةِإِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِغَرَقِ أَهْلِهَا إِذَا أَحْدَثَ مِثْلَ ذَلِكَ الْحَدَثِ فِيهَا فَلَا خَفَاءَ عَلَى أَحَدٍ مَعْنَى ذَلِكَ قَرَأَ بِالتَّاءِ وَنَصَبَ الْأَهْلَ، أَوْ بِالْيَاءِ وَرَفَعَ الْأَهْلِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}. يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: (قَالَ) الْعَالِمُ لِمُوسَى إِذْ قَالَ لَهُ مَا قَالَ {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} عَلَى مَا تَرَى مِنْ أَفْعَالِي، لِأَنَّكَ تَرَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خَبَرًا، قَالَ لَهُ مُوسَى: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} فَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْعَالِمِ مُعَارَضَةً، لَا أَنَّهُ كَانَ نَسِيَ عَهْدَهُ، وَمَا كَانَ تَقَدَّمَ فِيهِ حِينَ اسْتَصْحَبَهُ بِقَوْلِهِ: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ يَحْيَى بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: ثَنِي يَحْيَى بْنُ الْمُهَلَّبِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} قَالَ: لَمْ يَنْسَ، وَلَكِنَّهَا مَنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: لَا تُؤَاخِذُنِي بِتَرْكِي عَهْدِكَ، وَوُجِّهَ أَنَّ مَعْنَى النِّسْيَانِ: التُّرْكُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: ثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ}: أَيْ بِمَا تَرَكْتُ مِنْ عَهْدِكَ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مُوسَى سَأَلَ صَاحِبَهُ أَنْ لَا يُؤَاخِذُهُ بِمَا نَسِيَ فِيهِ عَهْدَهُ مِنْ سُؤَالِهِ إِيَّاهُ عَلَى وَجْهِ مَا فَعَلَ وَسَبَبِهِ لَا بِمَا سَأَلَهُ عَنْهُ، وَهُوَ لِعَهْدِهِ ذَاكِرٌ لِلصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ مِنَ الْخَبَرِ، وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ. عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} قَالَ: كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا». وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} يَقُولُ: لَا تُغْشِنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا، يَقُولُ: لَا تُضَيِّقُ عَلَيَّ أَمْرِي مَعَكَ، وَصُحْبَتِي إِيَّاكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ} الْعَالِمُ، فَـ (قَالَ) لَهُ مُوسَى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً}. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً} وَقَالُوا مَعْنَى ذَلِكَ: الْمُطَهَّرَةُ الَّتِي لَا ذَنْبَ لَهَا، وَلَمْ تُذْنِبْ قَطُّ لِصِغَرِهَا، وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلَ الْكُوفَةِ: {نَفْسًا زَكِيَّةً} بِمَعْنَى: التَّائِبَةُ الْمَغْفُورُ لَهَا ذُنُوبُهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} وَالزَّكِيَّةُ: التَّائِبَةُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} قَالَ: الزَّكِيَّةُ: التَّائِبَةُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ " أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً" قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: تَائِبَةٌ، هَكَذَا فِي حَدِيثِ الْحَسَنِ وَشَهْرٍ زَاكِيَةٌ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {نَفْسًا زَكِيَّةً} قَالَ: تَائِبَةٌ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهَا الْمُسَلِمَةُ الَّتِي لَا ذَنْبَ لَهَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: وَجَدَ خَضِرٌ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ، فَأَخَذَ غُلَامًا ظَرِيفًا فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ شُعَيْبٍ الْجَبَئِيِّ قَالَ: اسْمُ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ: جَيْسُورٌ {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} قَالَ: مُسْلِمَةٌ. قَالَ: وَقَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: (زَكِيَّةً) كَقَوْلِك: زَكِيًّا. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: مَعْنَى الزَّكِيَّةِ وَالزَّاكِيَةِ وَاحِدٌ، كَالْقَاسِيَةِ وَالْقَسِيَّةِ، وَيَقُولُ: هِيَ الَّتِي لَمَّ تَجْنِ شَيْئًا، وَذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ عِنْدِي لِأَنِّي لَمْ أَجِدْ فَرْقًا بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَبِأَيِّ الْقِرَاءَتَيْنِ قَرَأَ ذَلِكَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، لِأَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَوْلُهُ: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} يَقُولُ: بِغَيْرِ قِصَاصٍ بِنَفْسٍ قُتِلَتْ، فَلَزِمَهَا الْقَتْلُ قَوْدًا بِهَا، وَقَوْلُهُ: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} يَقُولُ: لَقَدْ جِئْتَ بِشَيْءٍ مُنْكِرٍ، وَفَعَلْتَ فِعْلًا غَيْرَ مَعْرُوفٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} وَالنُّكْرُ أَشَدُّ مِنَ الْإِمْرِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ الْعَالِمُ لِمُوسَى {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} عَلَى مَا تَرَى مِنْ أَفْعَالِي الَّتِي لَمَّ تُحِطْ بِهَا خَبَرًا، قَالَ مُوسَى لَهُ: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا} يَقُولُ: بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ {فَلَا تُصَاحِبْنِي} يَقُولُ: فَفَارَقْنِي، فَلَا تَكُنْ لِي مُصَاحِبًا {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} يَقُولُ: قَدْ بَلَغْتَ الْعُذْرَ فِي شَأْنِي. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ {مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ الدَّالِّ وَتَخْفِيفِ النُّونِ. وَقَرَأَهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ الدَّالِّ وَتَشْدِيدِ النُّونِ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ بِإِشْمَامِ اللَّامِ وَالضَّمِّ وَتَسْكِينِ الدَّالِّ وَتَخْفِيفِ النُّونِ، وَكَأَنَّ الَّذِينَ شَدَّدُوا النُّونَ طَلَبُوا لِلنُّونِ الَّتِي فِي لَدُنِ السَّلَامَةَ مِنَ الْحَرَكَةِ، إِذْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ سَاكِنَةً، وَلَوْ لَمْ تُشَدَّدْ لَتَحَرَّكَتْ، فَشَدَّدُوهَا كَرَاهَةً مِنْهُمْ تَحْرِيكَهَا، كَمَا فَعَلُوا فِي "مِنْ، وَعَنْ" إِذَا أَضَافُوهُمَا إِلَى مُكَنَّى الْمُخْبِرِ عَنْ نَفْسِهِ، فَشَدَّدُوهُمَا، فَقَالُوا مِنِّي وَعَنِّي. وَأَمَّا الَّذِينَ خَفَّفُوهَا، فَإِنَّهُمْ وَجَدُوا مُكَنَّى الْمُخْبِرِ عَنْ نَفْسِهِ فِي حَالِ الْخَفْضِ يَاءً وَحْدَهَا لَا نُونَ مَعَهَا، فَأَجْرَوْا ذَلِكَ مِنْ لَدُنْ عَلَى حَسَبِ مَا جَرَى بِهِ كَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ مَعَ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ غَيْرِهَا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءُ مِنَ الْقُرَّاءِ بِالْقُرْآنِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، غَيْرَ أَنَّ أَعْجَبَ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ فَتَحَ اللَّامَ وَضَمَّ الدَّالَّ وَشَدَّدَ النُّونَ، لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهَا أَشْهَرُ اللُّغَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ نَافِعٍ الْبَصْرِيَّ حَدَّثَنَا، قَالَ: ثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الْجَارِيَةِ الْعَبْدِي، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} مُثْقَلَة». حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، قَالَ: ثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، وَذَكَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: "اسْتَحْيَا فِي اللَّهِ مُوسَى». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، قَالَ: ثَنَا عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ، قَالَ: ثَنَا دَاوُدُ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَحْيَا فِي اللَّهِ مُوسَى عِنْدَهَا». حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، قَالَ: ثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا فَدَعَا لَهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى، لَوْ لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لَأَبْصَرَ الْعَجَبَ وَلَكِنَّهُ قَالَ: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} (مُثَقَّلَةً) ».
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَانْطَلَقَ مُوسَى وَالْعَالِمُ {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} مِنَ الطَّعَامِ فَلَمْ يُطْعِمُوهُمَا وَاسْتَضَافَاهُمْ {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ}. يَقُولُ: وَجَدَا فِي الْقَرْيَةِ حَائِطًا يُرِيدُ أَنْ يَسْقُطَ وَيَقَعَ، يُقَالُ مِنْهُ: انْقَضَّتِ الدَّارُ: إِذَا انْهَدَمَتْ وَسَقَطَتْ، وَمِنْهُ انْقِضَاضُ الْكَوْكَبِ، وَذَلِكَ سُقُوطُهُ وَزَوَالُهُ عَنْ مَكَانِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: فَانْقَضَّ كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ مُنْصَلِتًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ: (يُرِيدُ أَنْ يَنْقاضَّ). وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْهُمْ: مَجَازُ يَنْقَاضَّ: أَيْ يَنْقَلِعُ مِنْ أَصْلِهِ، وَيَتَصَدَّعُ، بِمَنْـزِلَةِ قَوْلِهِمْ: قَدِ انْقَاضَتِ السِّنُّ: أَيْ تَصَدَّعَتْ، وَتَصَدَّعَتْ مِنْ أَصْلِهَا، يُقَالُ: فَرَاقٌ كَقَيْضِ السِّنِّ: أَيْ لَا يَجْتَمِعُ أَهْلُهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْهُمْ: الِانْقِيَاضُ: الشِّقُّ فِي طُولِ الْحَائِطِ فِي طَيِّ الْبِئْرِ وَفِي سَنِّ الرَّجُلِ، يُقَالُ: قَدِ انْقَاضَتْ سِنُّهُ: إِذَا انْشَقَّتْ طُولًا. وَقِيلَ: إِنَّالْقَرْيَةَ الَّتِي اسْتَطْعَمَ أَهْلَهَا مُوسَى وَصَاحِبُهُ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا: الْأَيَلَةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الذِّرَاعُ، قَالَ: ثَنَا عِمْرَانُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ صَاحِبُ الْكَرَابِيسِيِّ، قَالَ: ثَنَا حَمَّادٌ أَبُو صَالِحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَيْرَيْنَ، قَالَ: انْتَابُوا الْأَيَلَةَ، فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ يَأْتِيهَا فَيَرْجِعُ مِنْهَا خَائِبًا، وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي أَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا، وَهِيَ أَبْعَدُ أَرْضِ اللَّهِ مِنَ السَّمَاءِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} وَتَلًّا إِلَى قَوْلِهِ {لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} شَرُّ الْقُرَى الَّتِي لَا تُضِيفُ الضَّيْفَ، وَلَا تَعْرِفُ لِابْنِ السَّبِيلِ حَقَّهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فِي مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: لَيْسَ لِلْحَائِطِ إِرَادَةً وَلَا لِلْمَوَاتِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ رَثَّةٍ فَهُوَ إِرَادَتُهُ وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَرَبِ فِي غَيْرِهِ: يُريـدُ الـرُّمحُ صَـدْرَ أَبِـي بَـرَاءٍ *** وَيَـرْغَبُ عَـنْ دِمـاءِ بَنِـي عُقَيْـلِ وَقَالَ آخِرٌ مِنْهُمْ: إِنَّمَا كَلَّمَ الْقَوْمَ بِمَا يَعْقِلُونَ، قَالَ: وَذَلِكَ لَمَّا دَنَا مِنَ الِانْقِضَاضِ، جَازَ أَنْ يَقُولَ: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، قَالَ: وَمِثْلُهُ {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} وَقَوْلُهُمْ: إِنِّي لِأَكَادَ أَطِيرُ مِنَ الْفَرَحِ، وَأَنْتَ لَمْ تَقْرُبْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ تَهَمَّ بِهِ، وَلَكِنْ لِعَظِيمِ الْأَمْرِ عِنْدَكَ، وَقَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ مِنْهُمْ: مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يَقُولُوا: الْجِدَارُ يُرِيدُ أَنْ يَسْقُطَ، قَالَ: وَمِثْلُهُ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنَّ دَهْـرًا يَلُـفُّ شَـمْلِي بِجُـمْلٍ *** لَزَمـانٌ يَهُـمُّ بِالْإِحْسـانِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: يَشْـكُو إلَـيَّ جَـمَلِي طُـولَ السُّـرَى *** صَـبْرًا جَـمِيلًا فَكِلَانَـا مُبْتَـلَى قَالَ: وَالْجُمَلُ لَمْ يَشْكُ، إِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّمَ لَقَالَ ذَلِكَ، قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: وَازْوَرَّ مِـنْ وَقْـعِ الْقَنَـا بِلَبَانِـهِ *** وَشَـكَا إِلَـيَّ بِعَـبْرَةٍ وَتَحَمْحُـمِ قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} وَالْغَضَبُ لَا يَسْكُتُ، وَإِنَّمَا يَسْكُتُ صَاحِبُهُ. وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: سَكَنَ. وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} إِنَّمَا يَعْزِمُ أَهْلُهُ، وَقَالَ آخِرٌ مِنْهُمْ: هَذَا مِنْ أَفْصَحِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَالَ: إِنَّمَا إِرَادَةُ الْجِدَارِ: مَيْلُهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "«لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا»" وَإِنَّمَا هُوَ أَنْ تَكُونَ نَارَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ صَاحِبَتِهَا بِمَوْضِعٍ لَوْ قَامَ فِيهِ إِنْسَانٌ رَأَى الْأُخْرَى فِي الْقُرْبِ، قَالَ: وَهُوَ كَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَصْنَامِ: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: دَارِي تَنْظُرُ إِلَى دَارِ فُلَانٍ، تَعْنِي: قُرْبَ مَا بَيْنَهُمَا، وَاسْتُشْهِدَ بِقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ فِي وَصْفِهِ حَوْضًا أَوْ مَنْـزِلًا دَارِسًا: قَدْ كَادَ أَوْ قَدْ هَمَّ بِالْبُيُودِ قَالَ: فَجَعْلُهُ يَهُمُّ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَدْ تَغَيَّرَ لِلْبِلَى، وَالَّذِي نَقُولُ بِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ بِلُطْفِهِ، جَعَلَ الْكَلَامَ بَيْنَ خَلْقِهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ، لِيُبَيِّنَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَمَّا فِي ضَمَائِرِهِمْ، مِمَّا لَا تُحِسُّهُ أَبْصَارُهُمْ، وَقَدْ عَقَلَتِ الْعَرَبُ مَعْنَى الْقَائِلِ: فِـي مَهْمَـهٍ قَلِقَـتْ بِـهِ هَامَاتُهَـا *** قَلَـقَ الْفُئُـوسِ إِذَا أَرَدْنَ نُصُـولًا وَفَهِمَتْ أَنَّ الْفُئُوسَ لَا تُوصَفُ بِمَا يُوصَفُ بِهِ بَنُو آدَمَ مِنْ ضَمَائِرِ الصُّدُورِ مَعَ وَصْفِهَا إِيَّاهُمَا بِأَنَّهَا تُرِيدُ، وَعَلِمَتْ مَا يُرِيدُ الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ: كَمِثْـلِ هَيْـلِ النَّقَـا طَـافَ الْمُشَاةُ بِهِ *** يَنْهَـالُ حِينًـا ويَنْهَـاهُ الـثَّرَى حِينًـا وَإِنَّمَا لَمْ يَرِدْ أَنَّ الثَّرَى نَطَقَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ تَلَبَّدَ بِالنَّدَى، فَمَنَعَهُ مِنَ الْإِنْهِيَالِ، فَكَانَ مَنْعُهَ إِيَّاهُ مِنْ ذَلِكَ كَالنَّهْيِ مِنْ ذَوِيِ الْمَنْطِقِ فَلَا يَنْهَالُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ مَعْنَاهُ: قَدْ قَارَبَ مِنْ أَنْ يَقَعَ أَوْ يَسْقُطَ، وَإِنَّمَا خَاطَبَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالْقُرْآنِ مِنْ أُنْـزِلَ الْوَحْيُ بِلِسَانِهِ، وَقَدْ عَقَلُوا مَا عَنَى بِهِ وَإِنِ اسْتَعْجَمَ عَنْ فَهْمِهِ ذَوُوُ الْبَلَادَةِ وَالْعَمَى، وَضَلَّ فِيهِ ذَوُوُ الْجَهَالَةِ وَالْغَبَا. وَقَوْلُهُ: (فَأَقَامَهُ) ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هَدَمَهُ ثُمَّ قَعَدَ يَبْنِيهِ. حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} قَالَ: رَفَعَ الْجِدَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَقَامَ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزِّ ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّصَاحِبَ مُوسَى وَمُوسَى وَجَدَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ صَاحِبُ مُوسَى، بِمَعْنَى: عَدَلَ مَيْلَهُ حَتَّى عَادَ مُسْتَوِيًا. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ ذَلِكَ بِإِصْلَاحٍ بَعْدَ هَدْمٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ بِرَفْعٍ مِنْهُ لَهُ بِيَدِهِ، فَاسْتَوَى بِقُدْرَةِ اللَّهِ، وَزَالَ عَنْهُ مَيْلُهُ بِلُطْفِهِ، وَلَا دَلَالَةَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا خَبَرَ لِلْعُذْرِ قَاطِعٌ بِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَيٍّ. وَقَوْلُهُ: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} يَقُولُ: قَالَ مُوسَى لِصَاحِبِهِ: لَوْ شِئْتَ لَمْ تُقِمْ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ جِدَارَهُمْ حَتَّى يُعْطُوكَ عَلَى إِقَامَتِكَ أَجْرًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا عَنَى مُوسَى بِالْأَجْرِ الَّذِي قَالَ لَهُ {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} الْقِرَى: أَيْ حَتَّى يَقْرُونَا، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُونَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ الْعِوَضَ وَالْجَزَاءَ عَلَى إِقَامَتِهِ الْحَائِطَ الْمَائِلَ. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} عَلَى التَّوْجِيهِ مِنْهُمْ لَهُ إِلَى أَنَّهُ لَافْتَعَلْتَ مِنَ الْأَخْذِ، وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَوْ شَئِتَ لَتَخِذْتَ بِتَخْفِيفِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْخَاءِ، وَأَصْلُهُ: لَافْتَعَلْتَ، غَيْرَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا التَّاءَ كَأَنَّهَا مِنْ أَصْلِ الْكَلِمَةِ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَهُمْ فِي فِعْلٍ وَيَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ: تَخِذَ فُلَانٌ كَذَا يَتْخَذُهُ تَخْذًا، وَهِيَ لُغَةٌ فِيمَا ذُكِرَ لِهُذَيْلٍ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: وَقَـدْ تَخِـذَتْ رِجْلِي لَدَى جَنْبِ غَرْزِهَا *** نَسـيِفًا كَـأُفْحُوصِ الْقَطَـاةِ الْمُطَـرِّقِ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي: أَنَّهُمَا لُغَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، غَيْرَ أَنِّي أَخْتَارُ قِرَاءَتَهُ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ عَلَى لَافْتَعَلَتْ، لِأَنَّهَا أَفْصَحُ اللُّغَتَيْنِ وَأَشْهَرُهُمَا، وَأَكْثَرُهُمَا عَلَى أَلْسُنِ الْعَرَبِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ صَاحِبُ مُوسَى لِمُوسَى: هَذَا الَّذِي قَلَتْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} {فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} يَقُولُ: فُرْقَةُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ: أَيْ مَفْرَّقٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ (سَأُنَبِّئُكَ) يَقُولُ: سَأُخْبِرُكَ {بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} يَقُولُ: بِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ عَاقِبَةُ أَفْعَالِي الَّتِي فَعَلْتُهَا، فَلَمْ تَسْتَطِعْ عَلَى تَرْكِ الْمَسْأَلَةِ عَنْهَا، وَعَنِ النَّكِيرِ عَلَيَّ فِيهَا صَبْرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}. يَقُولُ: أَمَّا فِعْلِي مَا فَعَلْتُ بِالسَّفِينَةِ، فَلِأَنَّهَا كَانَتْ لِقَوْمٍ مَسَاكِينَ {يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} بِالْخَرْقِ الَّذِي خَرَقْتُهَا. كَمَا حَدَّثَنِي ابْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} قَالَ: أَخْرُقُهَا. حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، مِثْلَهُ. وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} وَكَانَ أَمَامَهُمْ وَقُدَّامَهُمْ مَلِكٌ. كَمَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} قَالَ قَتَادَةُ: أَمَامَهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} وَهِيَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ فِي الْقِرَاءَةِ: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلَكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَحِيحَةٍ غَصْبًا. وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ "وَرَاءَ" مِنْ حُرُوفِ الْأَضْدَادِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ يَكُونُ لِمَا هُوَ أَمَامَهُ وَلِمَا خَلْفَهُ، وَاسْتَشْهَدَ لِصِحَّةِ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: أيَرْجُـو بَنُـو مَـرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي *** وَقَـوْمِي تَمِيـمٌ والْفَـلَاةُ وَرَائِيَـا بِمَعْنَى أَمَامِي. وَقَدْ أَغْفَلَ وَجْهَ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ. وَإِنَّمَا قِيلَ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ: هُوَ وَرَائِي، لِأَنَّكَ مِنْ وَرَائِهِ، فَأَنْتَ مُلَاقِيهِ كَمَا هُوَ مُلَاقِيكَ، فَصَارَ: إِذْ كَانَ مُلَاقِيكَ، كَأَنَّهُ مِنْ وَرَائِكَ وَأَنْتَ أَمَامَهُ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَا يُجِيزُ أَنْ يُقَالَ لِرَجُلٍ بَيْنَ يَدَيْكَ: هُوَ وَرَائِي، وَلَا إِذَا كَانَ وَرَاءَكَ أَنْ يُقَالَ: هُوَ أَمَامِي، وَيَقُولُ: إِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمَوَاقِيتِ مِنَ الْأَيَّامِ وَالْأَزْمِنَةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: وَرَاءَكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ حُرٌّ شَدِيدٌ، لِأَنَّكَ أَنْتَ وَرَاءَهُ، فَجَازَ لِأَنَّهُ شَيْءٌ يَأْتِي، فَكَأَنَّهُ إِذَا لَحِقَكَ صَارَ مِنْ وَرَائِكَ، وَكَأَنَّكَ إِذَا بَلَغْتَهُ صَارَ بَيْنَ يَدَيْكَ. قَالَ: فَلِذَلِكَ جَازَ الْوَجْهَانِ. وَقَوْلُهُ: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} فَيَقُولُ الْقَائِلُ: فَمَا أَغْنَى خَرْقُ هَذَا الْعَالِمِ السَّفِينَةَ الَّتِي رَكِبَهَا عَنْ أَهْلِهَا، إِذْ كَانَ مِنْ أَجْلِ خَرْقِهَا يَأْخُذُ السُّفُنَ كُلَّهَا، مَعِيبَهَا وَغَيْرَ مَعِيبِهَا، وَمَا كَانَ وَجْهُ اعْتِلَالِهِ فِي خَرْقِهَا بِأَنَّهُ خَرَقَهَا، لِأَنَّ وَرَاءَهُمْ مَلَكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ، أَنَّهُ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَحِيحَةٍ غَصْبًا، وَيَدَعُ مِنْهَا كُلَّ مَعِيبَةٍ، لَا أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ صِحَاحَهَا وَغَيْرَ صِحَاحِهَا. فَإِنْ قَالَ: وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ؟ قِيلَ: قَوْلُهُ: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} فَأَبَانَ بِذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا عَابَهَا، لِأَنَّ الْمَعِيبَةَ مِنْهَا لَا يَعْرِضُ لَهَا، فَاكْتَفَى بِذَلِكَ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلَكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَحِيحَةٍ غَصْبًا، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ كَذَلِكَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: هِيَ فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلَكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا" حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثَنِي الْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: "وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلَكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا " وَإِنَّمَا عِبْتُهَا لِأَرُدَّهُ عَنْهَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} فَإِذَا خَلَّفُوهُ أَصْلَحُوهَا بِزِفْتٍ فَاسْتَمْتَعُوا بِهَا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبٍ الْجَبَئِيِّ، أَنَّ اسْمَالرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا: هُدَدُ بْنُ بُدَدَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَمَّا الْغُلَامُ، فَإِنَّهُ كَانَ كَافِرًا، وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنِينَ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ يُرْهِقُهُمَا: يَقُولُ: يُغْشِيهِمَا طُغْيَانًا، وَهُوَ الِاسْتِكْبَارُ عَلَى اللَّهِ، وَكُفْرًا بِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ. وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: "وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا" فِي حَرْفِ أُبَيٍّ، وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنِينَ {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} وَكَانَ كَافِرًا فِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ. وَقَوْلُهُ: (فَخَشِينَا) وَهِيَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: " فَخَافَ رَبُّكَ أَنْ يُرْهَقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا" حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَبَّاسٍ الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «" الْغُلَامُ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا». وَالْخَشْيَةُ وَالْخَوْفُ تُوَجِّهُهُمَا الْعَرَبُ إِلَى مَعْنَى الظَّنِّ، وَتُوَجَّهُ هَذِهِ الْحُرُوفُ إِلَى مَعْنَى الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُدْرَكُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْحِسِّ وَالْعِيَانِ. وَقَدْ بَيَّنَا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: مَعْنَى قَوْلِهِ (خَشِينَا) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: كَرِهْنَا، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُخْشَى. وَقَالَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ: فَخَافَ رَبُّكَ، قَالَ: وَهُوَ مِثْلُ خِفْتُ الرَّجُلَيْنِ أَنْ يَعُولَا وَهُوَ لَا يَخَافُ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهُ يَكْرَهُهُ لَهُمَا. وَقَوْلُهُ: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا}: اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ الْمَكِّيِّينَ الْمَدَنِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا}. وَكَانَ بَعْضهمْ يَعْتَلُّ لِصِحَّةِ ذَلِكَ بِأَنَّهُ وَجَدَ ذَلِكَ مُشَدَّدًا فِي عَامَّةِ الْقُرْآنِ، كَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} وَقَوْلُهُ {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} فَأَلْحَقَ قَوْلَهُ: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا} بِتَخْفِيفِ الدَّالِّ. وَكَانَ بَعْضُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ مَنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ: أَبْدَلَ يُبْدِلُ بِالتَّخْفِيفِ وَبَدَّلَ يُبَدِّلُ بِالتَّشْدِيدِ: بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي: أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبْدَلَ أَبَوَيِ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ صَاحِبُ مُوسَى مِنْهُ بِجَارِيَةٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: ثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهَا جَارِيَةٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ أُمَيَّةَ أَنَّهُ سَمِعَ يَعْقُوبَ بْنَ عَاصِمٍ يَقُولُ: أُبْدِلَا مَكَانَ الْغُلَامِ جَارِيَةً. قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُشَيمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: أُبْدَلَا مَكَانَ الْغُلَامِ جَارِيَةً. وَقَالَ آخَرُونَ: أَبْدَلَهُمَا رَبُّهُمَا بِغُلَامٍ مُسْلِمٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنْ أَبِي جُرَيْجٍ {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} قَالَ: كَانَتْ أُمُّهُ حُبْلَى يَوْمئِذٍ بِغُلَامٍ مُسْلِمٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّهُ ذَكَرَالْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ، فَقَالَ: قَدْ فَرِحَ بِهِ أَبَوَاهُ حِينَ وُلِدَ وَحَزِنَا عَلَيْهِ حِينَ قُتِلَ، وَلَوْ بَقِيَ كَانَ فِيهِ هَلَاكُهُمَا، فَلْيَرْضَ امْرُؤٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ، فَإِنَّ قَضَاءَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ فِيمَا يَكْرَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ قَضَائِهِ فِيمَا يُحِبُّ. وَقَوْلُهُ: {خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} يَقُولُ: خَيْرًا مِنَ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ صَلَاحًا وَدِينًا. كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} قَالَ: الْإِسْلَامُ. وَقَوْلُهُ: {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَأَقْرَبُ رَحْمَةً بِوَالِدَيْهِ وَأَبَرُّ بِهِمَا مِنَ الْمَقْتُولِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ عَنْ قَتَادَةَ {وَأَقْرَبَ رُحْمًا}: أَبَرَّ بِوَالِدَيْهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَأَقْرَبَ رُحْمًا}، أَيْ أَقْرَبَ خَيْرًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَأَقْرَبُ أَنْ يَرْحَمَهُ أَبَوَاهُ مِنْهُمَا لِلْمَقْتُولِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} أَرْحَمُ بِهِ مِنْهُمَا بِالَّذِي قَتَلَ الْخَضِرُ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ: وَأَقْرَبُ أَنْ يَرْحَمَاهُ، وَالرُّحْمُ: مَصْدَرُ رَحِمْتُ، يُقَالُ: رَحِمْتُهُ رَحْمَةً وَرُحْمًا. وَكَانَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ يَقُولُ: مِنَ الرَّحِمِ وَالْقُرَابَةِ. وَقَدْ يُقَالُ: رُحْمٌ ورُحُمٌ مِثْلَ عُسْرٍ وَعُسُرٍ، وَهُلْكٍ وهُلُكٍ، وَاسْتُشْهِدَ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِبَيْتِ الْعَجَاجِ: وَلْمْ تُعَوَّجْ رُحْمُ مَنْ تَعَوَّجَا وَلَا وَجْهَ لِلرَّحِمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ الَّذِي أَبْدَلَ اللَّهُ مِنْهُ وَالِدَيْهِ وَلَدًا لِأَبَوَيِ الْمَقْتُولِ، فَقَرَابَتُهُمَا مِنْ وَالِدَيْهِ، وَقُرْبُهُمَا مِنْهُ فِي الرَّحِمِ سَوَاءٌ. وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: وَأَقْرَبُ مِنَ الْمَقْتُولِ أَنْ يَرْحَمَ وَالِدَيْهِ فَيَبِرُّهُمَا كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: وَقَدْ يَتَوَجَّهُ الْكَلَامُ إِلَى أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ. وَأَقْرَبُ أَنْ يَرْحَمَاهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ مِنْ أَهْلِ تَأْوِيلٍ تَأَوَّلَهُ كَذَلِكَ، فَإِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قَائِلٌ، فَالصَّوَابُ فِيهِ مَا قُلْنَا لِمَا بَيَّنَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبَرًا عَنْ قَوْلٍ صَاحِبِ مُوسَى: وَأَمَّا الْحَائِطُ الَّذِي أَقَمْتُهُ، فَإِنَّهُ كَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْـزٌ لَهُمَا. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ الْكَنْـزِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ صُحُفًا فِيهَا عِلْمٌ مَدْفُونَةً.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنـزٌ لَهُمَا} قَالَ: كَانَ تَحْتَهُ كَنْـزُ عِلْمٍ. حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْـزٌ لَهُمَا} قَالَ: كَانَ كَنْـزُ عِلْمٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَصِيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْـزٌ لَهُمَا} قَالَ: عِلْمٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْـزٌ لَهُمَا} قَالَ: عِلْمٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْـزٌ لَهُمَا} قَالَ: صُحُفٌ لِغُلَامَيْنِ فِيهَا عِلْمٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: صُحُفُ عِلْمٍ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ، قَالَ: ثَنَاهَنَّادَةُ ابْنَةُ مَالِكٍ الشَّيْبَانِيَّةُ، قَالَتْ: سَمِعْتُ صَاحِبِي حَمَّادَ بْنَ الْوَلِيدِ الثَّقَفِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْـزٌ لَهُمَا} قَالَ سَطْرَانِ وَنِصْفٌ، لَمْ يُتِمَّ الثَّالِثَ: "عَجِبْتُ لِلْمُوقِنِ بِالرِّزْقِ كَيْفَ يَتْعَبُ، عَجِبَتْ لِلْمُوقِنِ بِالْحِسَابِ كَيْفَ يَغْفُلُ، وَعَجِبَتْ لِلْمُوقِنِ بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ" وَقَدْ قَالَ: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} قَالَتْ: وَذَكَرَ أَنَّهُمَا حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا، وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْهُمَا صَلَاحٌ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَبِ الَّذِي حُفِظَا بِهِ سَبْعَةُ آبَاءٍ، وَكَانَ نَسَّاجًا. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا ابْنٌ حَبِيبِ بْنِ نُدْبَةَ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ نُعَيْمٍ الْعَنْبَرِيِّ، وَكَانَ مِنْ جُلَسَاءِ الْحَسَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْـزٌ لَهُمَا} قَالَ: لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ مَكْتُوبٌ فِيهِ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: عَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ كَيْفَ يَحْزَنُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يُوقِنُ بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يَعْرِفُ الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا، كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ". حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: ثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا كَانَ الْكَنْـزُ إِلَّا عِلْمًا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُمَيدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْـزٌ لَهُمَا} قَالَ: صُحُفٌ مِنْ عِلْمٍ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ، قَالَ: إِنَّالْكَنْـزَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِي السُّورَةِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا الْكَهْفَ {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْـزٌ لَهُمَا} قَالَ: كَانَ لَوْحًا مِنْ ذَهَبٍ مُصْمَتٍ، مَكْتُوبًا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عَجَبٌ مَنْ عَرَفَ الْمَوْتَ ثُمَّ ضَحِكَ، عَجَبٌ مَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ نَصَبَ، عَجَبٌ مَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ أَمِنَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ مَالًا مَكْنُوزًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْـزٌ لَهُمَا} قَالَ: كَنْـزُ مَالٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو حَصِيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، مِثْلَهُ، قَالَ شُعْبَةُ: وَلَمْ نَسْمَعْهُ مِنْهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْـزٌ لَهُمَا} قَالَ: مَالٌ لَهُمَا، قَالَ قَتَادَةُ: أُحِلَّ الْكَنْـزُ لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا، وَحُرِّمَ عَلَيْنَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَحِلُّ مَنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَيُحَرِّمُ، وَهِيَ السُّنَنُ وَالْفَرَائِضُ، وَيَحِلُّ لِأُمَّةٍ، وَيُحَرِّمُ عَلَى أُخْرَى، لَكَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ مَضَى إِلَّا الْإِخْلَاصَ وَالتَّوْحِيدَ لَهُ. وَأَوْلَى التَّأْوِلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ: الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ عِكْرِمَةُ، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ الْكَنْـزَ اسْمٌ لِمَا يُكْنَـزُ مِنْ مَاٍل، وَإِنَّ كُلَّ مَا كُنِـزَ فَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ كَنْـزٍ فَإِنَّ التَّأْوِيلَ مَصْرُوفٌ إِلَى الْأَغْلَبِ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمُخَاطَبِينَ بِالتَّنْـزِيلِ، مَا لَمْ يَأْتِ دَلِيلٌ يَجِبُ مِنْ أَجْلِهِ صَرْفُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، لِعِلَلٍ قَدْ بَيَّنَاهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} يَقُولُ: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يُدْرِكَا وَيَبْلُغَا قُوَّتَهُمَا وَشِدَّتَهُمَا، وَيَسْتَخْرِجَا حِينَئِذٍ كَنْـزَهُمَا الْمَكْنُوزَ تَحْتَ الْجِدَارِ الَّذِي أَقَمْتُهُ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ بِهِمَا، يَقُولُ: فَعَلْتُ فِعْلَ هَذَا بِالْجِدَارِ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِلْيَتِيمَيْنِ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِيقَوْلِهِ {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} قَالَ: حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا، وَمَا ذُكِرَ مِنْهُمَا صَلَاحٌ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِمِثْلِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} يَقُولُ: وَمَا فَعَلْتُ يَا مُوسَى جَمِيعَ الَّذِي رَأَيْتَنِي فِعَلْتُهُ عَنْ رَأْيِي، وَمِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، وَإِنَّمَا فِعْلَتُهُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ إِيَّايَ بِهِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}: كَانَ عَبْدًا مَأْمُورًا، فَمَضَى لِأَمْرِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} مَا رَأَيْتُ أَجْمَعَ مَا فَعَلْتُهُ عَنْ نَفْسِي. وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} يَقُولُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُ لَكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا فَعَلْتُ الْأَفْعَالَ الَّتِي اسْتَنْكَرْتَهَا مِنِّي، تَأْوِيلٌ: يَقُولُ: مَا تَئُولُ إِلَيْهِ وَتَرْجِعُ الْأَفْعَالُ الَّتِي لَمْ تَسْطَعْ عَلَى تَرْكِ مَسْأَلَتِكَ إِيَّايَ عَنْهَا، وَإِنْكَارِكَ لَهَا صَبْرًا. وَهَذِهِ الْقَصَصُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا عَنْ مُوسَى وَصَاحِبِهِ، تَأْدِيبٌ مِنْهُ لَهُ، وَتَقَدُّمٌ إِلَيْهِ بِتَرْكِ الِاسْتِعْجَالِ بِعُقُوبَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ وَبِكِتَابِهِ، وَإِعْلَامٌ مِنْهُ لَهُ أَنَّ أَفْعَالَهُ بِهِمْ وَإِنْ جَرَتْ فِيمَا تَرَى الْأَعْيُنُ بِمَا قَدْ يَجْرِي مِثْلُهُ أَحْيَانًا لِأَوْلِيَائِهِ، فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ صَائِرٌ بِهِمْ إِلَى أَحْوَالِ أَعْدَائِهِ فِيهَا، كَمَا كَانَتْ أَفْعَالُ صَاحِبِ مُوسَى وَاقِعَةً بِخِلَافِ الصِّحَّةِ فِي الظَّاهِرِ عِنْدَ مُوسَى، إِذْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِعَوَاقِبِهَا، وَهِيَ مَاضِيَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ وَآئِلَةٌ إِلَى الصَّوَابِ فِي الْعَاقِبَةِ، يُنْبِئُ عَنْ صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا}. ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقِصَّةِ مُوسَى وَصَاحِبِهِ، يُعَلِّمُ نَبِيَّهُ أَنَّ تَرْكَهُ جَلَّ جَلَالُهُ تَعْجِيلَ الْعَذَابِ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، بِغَيْرِ نَظَرٍ مِنْهُ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِيمَا يَحْسَبُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا اللَّهُ مُدَبِّرٌ فِيهِمْ نَظَرًا مِنْهُ لَهُمْ، لِأَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ صَائِرٌ إِلَى هَلَاكِهِمْ وَبَوَارِهِمْ بِالسَّيْفِ فِي الدُّنْيَا وَاسْتِحْقَاقِهِمْ مِنَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ الْخِزْيَ الدَّائِمَ.
|